فصل: الفصل الثاني والعشرون في أن المتغلبين على السلطان لا يشاركونه في اللقب الخاص بالملك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الفصل الحادي والعشرون فيما يعرض في الدول من حجر السلطان والاستبداد عليه:

إذا استقر الملك في نصاب معين ومنبت واحد من القبيل القائمين بالدولة وانفردوا به ودفعوا سائر القبيل عنه وتداوله بنو واحدا بعد واحد بحسب الترشيح فربما حدث التغلب على المنصب من وزرائهم وحاشيتهم وسببه في الأكثر ولاية صبي صغير أو مضعف من أهل المنبت يترشح للولاية بعهد أبيه أو بترشيح ذويه وخوله ويؤنس منه العجز عن القيام بالملك فيقوم به كافله من وزراء أبيه وحاشيته ومواليه أو قبيله ويوري بحفظ أمره عليه حتى يؤنس منه الاستبداد ويجعل ذلك ذريعة للملك فيححب الصبي عن الناس ويعوده إليها ترف أحواله ويسيمه في مراعيها متى أمكنه وينسيه النظر في الأمور السلطانية حتى يستبد عليه وهو بما عوده يعتقد أن حظ السلطان من الملك إنما هو جلوس السرير إعطاء الصفقة وخطاب التهويل والقعود مع النساء خلف الحجاب وأن الحل والربط والأمر والنهي ومباشرة الأحوال الملوكية وتفقدها من النظر في الجيش والمال والثغور أنما هو للوزير ويسلم له في ذلك إلى أن تستحكم له صبغة الرئاسة والاستبداد ويتحول الملك إليه ويؤثر به عشيرته وأبناءه من بعده كما وقع لبني بويه والترك وكافور الأخشيدي وغيرهم بالمشرق وللمنصور بن أبي عامر بالأندلس.
وقد يتفطن ذلك المحجور المغلب لشأنه فيحاول على الخروج من ربقة الحجر والاستبداد ويرجع الملك إلى نصابه ويصرب على أيدي المتغلبين عليه إما بقتل أو برفع عن الرتبة فقط إلا أن ذلك في النادر الأقل لأن الدولة إذا أخذت في تغلب الوزراء والأولياء استمر لها ذلك وقل أن تخرج عنه لأن ذلك إنما يوجد في الأكثر عن أحوال الترف ونشأة أبناء الملك منغمسين في نعيمة قد نسوا عهد الرجولة وألفوا أخلاق الدايات والأظار وربوا عليها فلا ينزعون إلى رئاسة ولا يعرفون استبدادا من تغلب إنما همهم في القنوع بالأبهة والتنفس في اللذات وأنواع الترف وهذا التغلب يكون للموالي والمصطنعين عند استبداد عشير الملك على قومهم وانفرادهم به دونهم وهو عارض للدولة ضروري كما قدمناه وهذان مرضان لابرء للدولة منهما إلا في الأقل النادر والله يؤتي ملكه من يشاء وهو على كل شيء قدير.

.الفصل الثاني والعشرون في أن المتغلبين على السلطان لا يشاركونه في اللقب الخاص بالملك:

وذلك أن الملك والسلطان حصل لأوليه منذ أول الدولة بعصبية قومه وعصبيته التي استتبعتهم حتى استحكمت له ولقومه صبغة الملك والغلب وهي لم تزل باقية وبها انحفظ رسم الدولة وبقاؤها وهذا المتغلب وإن كان صاحب عصبية من قبيل الملك أو الموالي والصنائع فعصبيته مندرجة في عصبية أهل الملك وتابعة لها وليس له صبغة في الملك وهو لا يحاول في استبداده انتزاع ثمراته من الأمر والنهي والحل والعقد والإبرام والنقض يوهم فيها أهل الدولة أنه متصرف عن سلطانه منفذ في ذلك من وراء الحجاب لأحكامه فهو يتجافى عن سمات الملك وشاراته وألقى به جهده ويبعد نفسه عن التهمة بذلك وإن حصل له الاستبداد لأنه مستتر في استبداده ذلك بالحجاب الذي ضربه السلطان وأولوه على أنفسهم عن القبيل منذ أول الدولة ومغالط عنه بالنيابة ولو تعرض لشيىء من ذلك لنفسه عليه أهل العصبية وقبيل الملك وحاولوا الإستئثار به دونه لأنه لم يستحكم له في ذلك صبغة تحملهم على التسليم له والانقياد فيهلك لأول وهلة وقد وقع مثل هذا لعبد الرحمن بن الناصر بن منصور بن أبي عامر حين سمى إلى مشاركة هشام وأهل بيته في لقب الخلافة ولم يقنع بما قنع به أبوه وأخوه من الاستبداد بالحل والعقد والمراسم المتابعة فطلب من هشام خليفته أن يعهد له بالخلافة فنفس ذلك عليه بنو مروان وسائر قريش وبايعوا لابن عم الخليفة هشام محمد بن عبد الجبار بن الناصر وخرجوا عليهم وكان في ذلك خراب دولة العامريين وهلاك المؤيد خليفتهم واستبدل منه سواه من أعياص الدولة إلى آخرها واختلت مراسم ملكهم والله خير الوارثين.

.الفصل الثالث والعشرون في حقيقة الملك وأصنافه:

الملك منصب طبيعي للإنسان لأننا قد بنا أن البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلا باجتماعهم وتعاونهم على تحصيل قوتهم وضرورياتهم وإذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة واقتضاء الحاجات ومد كل واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه لما في الطبيعة الحيوانية من الظلم والعدوان بعضهم على بعض ويمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب والألفة ومقتضى القوة البشرية في ذلك فيقع التنازع المفضي إلى المقاتلة وهي تؤدي إلى الهرج وسفك الدماء وإذهاب النفوس المفضي ذلك إلى انقطاع النوع وهو مما خصه الباري سبحانه بالمحافظة فاستحال بقاؤهم فوضى دون حالم يزغ بعضهم عن بعض واحتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم عليهم وهو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم ولا بد في ذلك من العصبية لما قدمناه من أن المطالبات كلها والمدافعات لا تتم إلا بالعصبية وهذا الملك كما تراه منصب شريف تتوجه نحوه المطالبات ويحتاج إلى المدافعات ولا يتم شيء من ذلك إلا بالعصبيات كما مر والعصبيات متفاوتة وكل عصبية فلها تحكم وتغلب على من يليها من قومها وعشيرها وليس الملك لكل عصبية وإنما الملك على الحقيقة لمن يستعبد الرعية ويجبي الأموال ويبعث البعوث ويحمي الثغور ولا تكون فوق يده يد قاهرة وهذا معنى الملك وحقيقته في المشهور فمن قصرت به عصبيته عن بعضها مثل حماية الثغور أو جباية الأموال أو بعث البعوث فهو ملك ناقص لم تتم حقيقته كما وقع لكثير من ملوك البربر في دولة الأغالبة بالقيروان ولملوك العجم صدر الدولة العباسية ومن قصرت به عصبيته أيضا عن الاستعلاء على جميع العصبيات والضرب على سائر الأيدي وكان فوقه حكم غيره فهو أيضا ملك ناقص لم تتم حقيقته وهؤلاء مثل أمراء النواحي ورؤساء الجهات الذين تجمعهم دولة واحدة وكثيرا ما يوجد هذا في الدولة المتسعة النطاق أعني توجد ملوك على قومهم في النواحي القاصية يدينون بطاعة الدولة التي جمعتهم مثل صنهاجة مع العبيديين وزناتة مع الأمويين تارة والعبيديين تارة أخرى ومثل ملوك العجم في دولة بني العباس ومثل ملوك الطوائف من الفرس مع الاسكندر وقومه اليونانيين وكثير من هؤلاء فاعتبره تجده والله القاهر فوق عباده.